أزمة تونس السياسية .. بين الحرية والفوضي والإنقاذ !!

الأربعاء 4 أغسطس, 2021

في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والخروج من المأزق الإقتصادي والشلل السياسي جاءت قرارات الرئيس قيس بن سعيد الإستثنائية بإعفاء رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان مؤقتا ،ورفع الحصانة عن النواب، ومحاربة المفسدين ، فهناك فارق كبير بين الحرية المسئولة التي تبني الأوطان وتحفظ كيانها، والفوضي المدمرة الهدامة، التي تضيع كل المكتسبات، وتهدر الثروات والمقدرات ،وتعود بالأوطان للخلف عشرات السنين !. ويبدو أن الشعوب العربية ستدفع غاليا ثمن الصراعات والنزاعات المتتالية لجماعات المصالح علي كرسي السلطة، وعلي مفاصل الحكم، والقرار، ولن تهنأ بالحرية والانتقال الديمقراطي ، ورخاء وجودة الحياة ، كما هو الحال في المجتمعات الغربية والمتحضرة، فالتاريخ يعيد نفسه سريعا ، ويكتب بمداد من وجع وألم ودم سطورا حزينة تتكرر بنسخ الكربون !! وقد أصبحنا أمام الدنيا بأسرها في صورة ذهنية مشوهة ومهترئة، كشعوب تعشق الفوضوية والنفعية،ولاتعرف معني الحرية والديمقراطية. ولا أدري لماذا لا نتفق نحن العرب علي كلمة سواء تجنبا للمناطحات السياسية والصراعات ، وحفظا لأوطاننا التي تسقط الواحدة تلو الأخري تحت شعارات زائفة وحجج ومبررات واهية تحولت لفوضي وتراجع ودمار.. والقائمة طويلة بدأت بالعراق فسوريا ثم اليمن وليببا ،والآن بلبنان وتونس... !! وكأنها إستراتيجية أممية ننفذها يأيدينا لغرس التوتر المستمر وتدمير مقدرات العرب ووأد طموحاتهم في مهدها. وهاهي تونس تتجه نحو المجهول وبعد عشر سنوات من اندلاع ثورة الياسمين ،فما تزال رمز الصمود والحرية تحلم بالديمقراطية وبالإصلاح الحقيقي وبالتوافق بين مختلف القوي السياسية، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص العمل وبالحياة الكريمة، وربما بثورة جديدة تصحح الكثير من التردي والأعوجاج ،لكن المغرضين وأرباب المصالح لهم رؤي مغايرة. ولد الربيع العربي من تونس وتحول لكابوس مفزع، وتباري رفقاء الثورة في حصد ثمارها فسرعان ما تحولت الثورات العربية لكابوس طويل، وظفته قوي خارجية لتنفيذ سيناريوهات الفوضي الخلاقة ،وتدشين ملامح الشرق الأوسط الجديد الأكثر وهنا وضياعا.!! وربما فقهت تونس الدرس مبكرا ،فظلت نموذجا متوازنا متماسكا وحافظ شركاء الثورة علي فكرة التوافق والمشاركة لا المغالبة..والتحرر من نظام علي بن زين العابدين، أملا في قطف ثمار الإصلاح والثورة. ورفض إخوان تونس في البداية فكرة المغالبة والإستئثار بالسلطة والسيطرة علي مفاصل الدولة ، بل ونصحوا أخوانهم في مصر بضرورة فتح خطوط تواصل مع كافة القوي السياسية لتحقيق آمال وطموحات المواطنين، ولكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع فعادت تونس لنقطة الصفر وتبارت القوي السياسية ومنها الإخوان في التخلي عن المباديء الثورية شيئا فشيئا ، فجاء الحصاد المر سريعا!! وهناك عشرات التساؤلات تموج في أذهان الشارع العربي الذي يشعر بمرارة وأوجاع بعد انهيار فكرة التوافق السياسي في معظم بلدان العرب.. من يحرك الأوراق ومن المتسبب في أزمة تونس السياسية؟! وإلي أين تتجه الأمور بعد تداعيات القرارات الإستثنائية لقيس بن سعيد ، وهل ما فعله الرئيس من تعطيل لمؤسسات الدولة ، سيجنب البلاد المزيد من التراجع الإقتصادي، أم سيكون بداية لأزمات سياسية متتابعة وصراعات غير محمودة العواقب؟! وهل التجربة المرة لإخوان تونس تتكرر من جديد، كما حدث مع إخوان القاهرة ، حين عجزوا عن إدارة شئون الدولة، واقترفوا خطايا تاريخية وعاشوا وهم التمكين، فكانت النتيجة الفوضي السياسية والتراجع الإقتصادي!. لاشك أن الإجابات الشافية الوافية لهذه التساؤلات ستجيب عنها الأيام القادمة. وتبقي الحقيقة أنه مع انسداد الأفق السياسي واستمراء واستمرار التنازع علي السلطة والقرار ، تصنع الأزمات مناخ الفتنة وبيئة الفساد ،التي يجيد استغلالها الإنتهازيون والفوضويون علي حساب مقدارات الوطن وأحلام الشعب. ومما عمق الجراح المندمله في تونس، إماطة اللثام عن قضايا التربح والفساد وتورط ما يزيد عن 460 من رجال الأعمال في أعمال غير مشروعة واستثمارات مشبوهة، واستيلائهم علي ما يقترب من 5 مليارات دولار ، كانت كفيلة بحل جزء من الأزمة الإقتصادية ، علاوة علي فشل الحكومة في تلبية احتياجات المواطنين،و تحقيق معدلات نمو تضمن الإرتقاء بمستوي معيشة المواطن. وأتصور أنه لا تنمية بدون إستقرار سياسي ونظام حكم عادل وقوي،ووطن آمن يجمع أطياف الأمة ويقبل بالتعددية الحزبية وقبول الآخر بلا تفرقة ،أو إقصاء ومناخ يمهد للعمل والبناء وإستثمار كافة الجهود والطاقات، ولكن يبدو أنها ما زالت نوعا من الأحلام ، في دنيا العرب التواقين لغد أفضل ! ومعظم تحليلات المراقبين تؤكد ضلوع إخوان تونس وبعض رجال الأعمال المفسدين في إحداث حالة من الجمود والشلل السياسي والإقتصادي والتأزيم وعجز مؤسسات الدولة عن الخروج من مشكلات أهل تونس الموروثة والمستجدة ،وعلي رأسها إنهيار المنظومة الصحية أمام تفشي عدوي كورونا ، وانتشار البطالة وتراجع مستوي المعيشة. ولا تزال هناك دعوات متعقلة من مختلف الأطراف السياسية لتجاوز المحنة وتحقيق الوفاق والوطني. ومابين دعوات البعض للنزول للشارع،وبوادر الإنشقاق داخل حركة النهضة وإختلاف الرؤي والتوجهات حول التعاطي مع قرارات قيس بن سعيد ، تبقي الحركة ورفاق الغنوشي ومختلف القوي السياسية في إختبار جديد وصعب لإثبات حسن النوايا وإنهاء الأزمة، والدعوة لمصالحة وطنية أو بديل الشؤوم ،والعودة للخلف ، وربما البداية الموجعة من أول السطر.